الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد الشعراوي في الآيتين: قال رحمه الله:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} سورة البقرة.ما ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له وعشق التكاليف؛ فإبراهيم وفي كل ما كلفه به الله وزاد عليه.. وقابل الابتلاء بالطاعة الصبر.. فعندما ابتلاه الله بذبح ابنه الوحيد لم يتردد وكان يؤدي التكاليف بعشق ويحاول أن يستبقي المنهج السليم في ذريته.قوله تعالى: {ومن يرغب} يعني يعرض ويرفض. ويقال رغب في كذا أي أحبه وأراده. ورغب عن كذا أي صد عنه وأعرض.. والذين يصدون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء هم السفهاء والجهلة، لذلك قال عنهم الله سبحانه وتعالى: {إلا من سفه نفسه}.. دليل على ضعف الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالًا وعم غير ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه ولذلك تنقل قوامته على ماله إلي ولي أو وصي؛ لأنه بسفهه غير قادر على أن ينفق المال فيما ينفع. والقرآن الكريم يعالج هذه المسألة علاجا دقيقا فيقول: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولًا معروفًا (5)} سورة النساء.نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى سمى أموال السفهاء بأموالي الولي ولم يعتبرها مال السفيه لأنه ليس أهلا للقيام عليها.. وجعل هذه الأموال تحت إشراف شخص آخر أكثر نضجا وحكمة.وقوله تعالى: {أموالكم} ليكون الولي أو الوصي حريصا عليها كماله أو أكثر ولكن هو قيم فقط.. فإذا بلغ الإنسان سن الرشد أو شفى السفيه من سفاهته يرد إليه ماله ليتصرف فيه. ونحن نرى عددا من الأبناء يرفعون قضايا على آبائهم وأمهاتهم يتهمونهم فيها بالسفه لأنهم لا يحسنون التصرف في أموالهم.. ثم يأخذون هذه الأموال ويبعثرونها هم.. والذي يجب أن يعلمه كل من يقوم بهذه العملية أنه لا حق له في إنفاق المال وتبذيره لحسابه الخاص، ولكن هناك حكمين: إما أن يكون الشخص فقيرا فله أن يأكل بالمعروف.. وإما أن يكون غنيا فيجعل عمله في الولاية لله لا يتقاضى عنه شيئا.. أما أن يأخذ المال ويبعثره على نفسه وشهواته وعلى زوجته وأولاده فهذا مرفوض ويحاسب عليه.. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} من الآية 6 سورة النساء.إذن الذي يعرض عن ملة إبراهيم هو سفيه لا يملك عقلا يميز بين الضار والنافع. ويقول الله سبحانه وتعالى: {ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.. اصطفاه في الدنيا بالمنهج وبأن جعله إماما وبالابتلاء.. وكثير من الناس يظن أن ارتفاع مقامات بعضهم في أمور الدنيا هو اصطفاء من الله لهم بأن أعطاهم زخرف الحياة الدنيا ويكون هذا مبررا لأن يعتقدوا أن لهم منزلة عالية في الآخرة.. نقول لا، فمنازل الدنيا لا علاقة لها بالآخرة. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {ولقد اصطفيناه في الدنيا}.. وأضاف: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.. لنعلم أن إبراهيم عليه السلام له منزلة عالية في الدنيا ونعيم في الآخرة أي الاثنين معا.{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}.والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلي أنه قال لإبراهيم أسلم فقال أسلمت.. إذن فمطلوب الحق سبحانه وتعالى من عبده أن يسلم إليه.. ولم يقل الحق أسلم إلي لأنها مفهومة.. ولم يقل أسلم لربك لأن الإسلام لا يكون إلا لله لأنه هو سبحانه المأمون علينا.. على أن إبراهيم عليه السلام قال في رده: {أسلمت لرب العالمين}. ومعنى ذلك أنه لن يكون وحده في الكون لأنه إذا أسلم لله الذي سخر له ما في السماوات والأرض.. يكون قد انسجم مع الكون المخلوق من الله للإنسان.. ومن أكثر نضجًا في العقل ممن يسلم وجهه لله سبحانه.. لأنه يكون بذلك قد أسلمه إلي عزيز حكيم قوي لا يقهر، قادر لا تنتهي قدرته.. غالب لا يغلب، رزاق لا يأتي الرزق إلا منه. فكأنه أسلم وجهه للخير كله.والدين عند الله سبحانه وتعالى منذ عهد آدم إلي يوم القيامة هو إسلام الوجه لله، ولماذا الوجه؟ لأن الوجه أشرف شيء في الإنسان يعتز به ويعتبره سمة من سمات كرامته وعزته.. ولذلك فنحن حين نريد منتهى الخضوع لله في الصلاة نضع جباهنا ووجوهنا على الأرض.. وهذا منتهى الخضوع أن تضع أشرف ما فيك وهو وجهك على الأرض إعلانا لخضوعك لله سبحانه وتعالى. والله جل جلاله يريد من الإنسان أن يسلم قيادته لله.. بأن يجعل اختياراته في الدنيا لما يريده الله تبارك وتعالى.. فإذا تحدث لا يكذب، لأن الله يحب الصدق، وإذا كلف بشيء يفعله لأن التكليف في صالحنا ولا يستفيد الله منه شيئا.. وإذا قال الله تعالى تصدق بمالك أسرع يتصدق بماله ليرد له أضعافا مضاعفة في الآخرة وبقدرة الله.وهكذا نرى أن الخير كله للإنسان هو أن يجعل مراداته في الحياة الدنيا طبقا لما أراده الله.. وفي هذه الحالة يكون قد انسجم مع الكون كله وتجد أن الكون يخدمه ويعطيه وهو سعيد. أما من يسلم وجهه لغير الله فقد اعتمد على قوي يمكن أن يضعف، وعلى غني يمكن أن يفتقر.. وعلى موجود يمكن أن يموت ويصبح لا وجود له. ولذلك فهو في هذه الحالة يتصف بالسفاهة لأنه اعتمد على الضار وترك النافع. اهـ..التفسير المأثور: قال السيوطي:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}.أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم} قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم الإِسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله.وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {إلا من سفه نفسه} قال: إلا من أخطأ حظه.وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {ولقد اصطفيناه} قال: اخترناه. اهـ..فائدة بلاغية: في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {إذ قال له ربه أسلم}، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: {قال أسلمت لرب العالمين}، ولم يقل: قال أسلمت لك.أما الأول: فالنكتة فيه: الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد: أن القصة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.وأما الثاني: فلأن قوله تعالى: {إذ قال له ربه}، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين. اهـ.سؤال: ما معنى الإسلام في قوله: {أسلم}؟قال الإمام الفخر: قوله: {أَسْلَمَ} ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر:أحدها: الانقياد لأوامر الله تعالى، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول، وترك الإعراض بالقلب واللسان، وهو المراد من قوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128].وثانيها: قال الأصم: {أسلم} أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار.وثالثها: استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19].ورابعها: أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح، وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفًا بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله: {أسلم}. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: .قال ابن عادل: في {إذ} خمسة أوجه:أصحها: أنه منصوب ب {قال أسلمت}، أي: قال أسلمت وقت قول الله لم أسلم.الثاني: أنه بدل من قوله: {في الدنيا}.الثالث: أنه منصوب ب {اصطفيناه}.الرابع: أنه منصوب باذكر مقدرًا، ذكر أبو البقاء، والزمخشري، وعلى تقدير كونه معمولًا ل {اصطفيناه} أو لاذكر مقدرًا يبقى قوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ} غير منتظم مع ما قبله، إلاّ أن يقدر حذف حرف عطف أي: فقال، أو يجعل جوابًا بسؤالٍ مقدر، أي ما كان جوابه؟فقيل: قال أسلمت.الخامس: أبعد بعضهم، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال، والعامل في {اصْطَفَيْنَاه}.وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفات، إذ لو جاء على نسقه لقيل: إذ قلنا؛ لأنه بعد {ولقد اصطفيناه}، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله: البسيط:وقوله: {لرَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه من الفخامة ما ليس في قوله: لك أو لربي، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميعا العالمين اعترف بأنه بربه وزيادة، بخلاف الأول، فذلك عدل عن العبارتين.وفي قوله: {أسلم} حَذْفُ مفعول تقديره: أسلم لربك. اهـ. .فروق لغوية دقيقة: الفرق بين الإسلام والإيمان والصلاح:أن الصلاح استقامة الحال وهو مما يفعله العبد لنفسه ويكون بفعل الله له لطفا وتوفيقا، والإيمان الطاعة التي يؤمن بها العقاب على ضدها وسميت النافلة إيمانا على سبيل التبع لهذه الطاعة والإسلام طاعة الله التي يسلم بها من عقاب الله وصار كالعلم على شريعة محمد ولذلك ينتفي منه اليهود وغيرهم ولا ينتفون من الإيمان. اهـ..تفسير الآية رقم (132): قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}..من أقوال المفسرين: .قال البقاعي: {ووصى بها} أي بهذه المقالة أو الوصية أو الخصلة التي اصطفاه الله بها، ولعله لم يذكر الضمير لئلا يوهم الرجوع إلى ربه؛ وقرئ {وأوصى} فهو من إيصاء والوصية وهي التقدم في الشيء النافع المحمود عاقبته، وقراءة التشديد أبلغ لدلالتها على التكرر والتكثر {إبراهيم بنيه ويعقوب} وصّى بها أيضًا بنيه فقال كل منهم: {يا بنيّ إن الله} بعظمته وكماله {اصطفى لكم الدين} وهو الإسلام، فأغناكم عن تطلبه وإجالة الفكر فيه رحمة منه لكم {فلا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا {تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم} أي والحال أنكم {مسلمون} أي ملقون بأيديكم وجميع ما ينسب إليكم لله لا حظ لكم في شيء أصلًا ولا التفات إلى غير مولاكم، فإن من كمل افتقاره إلى الغني الحكيم أغناه بحسب ذلك.وقرر سبحانه بالآيات الآتية بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرّأ خليله والأنبياء من ذلك على وجه أوجب القطع بأنهم عالمون ببطلانه. اهـ..قال الفخر: قرأ نافع وابن عامر وأوصى بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في وصى دليل مبالغة وتكثير. اهـ..قال الماوردي: ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، وَوَصَّى لا يكون إلا مرارًا. اهـ.سؤال: الضمير في بها إلى أي شيء يعود؟الجواب: قال أبو عبيدة: إن شئت رددت الكناية إلى الملة لأنه ذكر ملة إبراهيم، وإن شئت رددتها إلى الوصية: أي وصى إبراهيم بنيه الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية، وإسحاق وأمه سارة، وستة أمهم قنطورة بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة. اهـ..قال ابن عادل: وبنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه، ومديان، ومدان، وزمران، ويقشان، وبشباق، وشوح، وهؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليه السلام لما خرج خائفًا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل هو شعيب كان كاهن أهل مدين. وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الأرامية تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلًا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان بلد الخليل حيث دفن جده وأبوه عليهم السلام. اهـ.
|